فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله.
وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا.
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكةَ بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل! ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل! ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل! أو كما قال له فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّمًا، ثم تَرْقَى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصَكٍّ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.
وأيْم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا آسفًا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه؛ كلّه لفظ ابن إسحاق.
وذكر الواحديّ عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} {يَنْبُوعًا} يعني العيون؛ عن مجاهد.
وهي يفعول، من نَبَع ينبع.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {تفجر لنا} مخفّفة؛ واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد.
ولم يختلفوا في تفجّر الأنهار أنه مشدّد.
قال أبو عبيد: والأولى مثلها.
قال أبو حاتم: ليست مثلها؛ لأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، والتشديد يدل على التكثير.
أجيب بأن {ينبوعًا} وإن كان واحدًا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد.
الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع.
وقرأ قتادة {أو يكون لك جنة}.
{خِلالَهَا} أي وسطها.
{أَوْ تُسْقِطَ السمآء} قراءة العامة.
وقرأ مجاهد: {أو يسقط السماء} على إسناد الفعل إلى السماء.
{كِسَفًا} قطعًا؛ عن ابن عباس وغيره.
والكِسَف بفتح السين جمع كسفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم.
الباقون: {كسفًا} بإسكان السين.
قال الأخفش: من قرأ كسْفًا من السماء جعله واحدًا، ومن قرأ كسفًا جعله جمعًا.
قال المهدَويّ: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرًا؛ من كسفت الشيء إذا غطّيته.
فكأنهم قالوا: أسقطها طبقًا علينا.
وقال الجوهريّ: الكِسْفة القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كِسْفة من ثوبك، والجمع كِسْف وكِسَف.
ويقال: الكِسْف والكِسْفة واحد.
{أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} أي معاينة؛ عن قتادة وابن جريج.
وقال الضحاك وابن عباس: كفيلًا.
قال مقاتل: شهيدًا.
مجاهد: هو جمع القبيلة؛ أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة.
وقيل: ضمناء يضمنون لنا إتيانك به.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} أي من ذهب؛ عن ابن عباس وغيره.
وأصله الزينة.
والمزخرف المزين.
وزخارف الماء طرائقه.
وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزُّخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود {بيت من ذهب} أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى.
{أَوْ ترقى فِي السمآء} أي تصعد؛ يقال: رقيت في السلم أرقى رَقْيًا ورُقِيًّا إذا صعدت.
وارتقيت مثله.
{وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أي من أجل رقيّك، وهو مصدر؛ نحو مضى يمضي مضيًا، وهوى يهوي هويًا، كذلك رقى يرقى رقيًا.
{حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} أي كتابًا من الله تعالى إلى كل رجل منا؛ كما قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52]. {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} وقرأ أهل مكة والشام {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي قال ذلك تنزيهًا لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم.
الباقون: {قل} على أمر؛ أي قل لهم يا محمد {هَلْ كُنتُ} أي ما أنا {إلاّ بشرًا رسولًا} أتبع ما يوحى إليّ من ربّي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدًا من البشر أتى بهذه الآيات! وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابًا مقنعًا، وغلطوا؛ لأنه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخيّر على ربي، ولم تكن الرسل قَبْلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوّتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أؤمن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري.
وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس.
وإنما التدبير إلى الله تعالى. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.
لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكرًا إلى آخر الدهر ورفع له قدرًا به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن {أن يأتوا بمثل} جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه {لا يأتون بمثله ولو كان} الجنّ تفعل أفعالًا مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معًا لذلك.
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت {ولا يأتون} جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في {لئن} وهي الداخلة على الشرط كقوله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعًا.
فأما قول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة ** لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل

فاللام في {لئن} زائدة وليست موطئة لقسم قبلها.
فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة.
وذكر ابن عطية هنا فصلًا حسنًا في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته.
قال: وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالًا ونظرًا ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي

وفي قول جرير:
تلفت إنها تحت ابن قين

وألا ترى قول الأعرابي: عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله: {حتى زرتم المقابر} فقال: إن الزيارة تقتضي الانصراف، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت

ومنه قول الأعرابي للأصمعي:
من أحوج الكريم أن يقسم

فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم.
وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى.
ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.
وقال الزمخشري: {ولا يأتون} جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جوابًا للشرط.
كقوله:
يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن الشرط وقع ماضيًا انتهى.
يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت:
وإن أتاه خليل يوم مسأله

فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعًا هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضيًا وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى.
وتكرر لفظ مثل في قوله: {لا يأتون بمثله} على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم {أن يأتوا} بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار {بمثله} ولم يكن التركيب {لا يأتون} به رفعًا لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه.
وقرأ الجمهور: {صرّفنا} بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول {صرّفنا} محذوف تقديره البينات والعبر و{من} لابتداء الغاية.
وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد {صرّفنا} {كل مثل} انتهى.
يعني فيكون مفعول {صرّفنا} {كل مثل} وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.